“مرت يوم امس ذكرى رحيل الشاعر الكبير عريان السيد خلف وبهذه المناسبة تنشر وكالة ” فضاءات نيوز ” الفصل الخاص به من كتاب “بورتريه لذاكرة بيضاء ” / الجزء الثاني ..للصحفي والكاتب القدير قحطان جاسم .عسى ولعل نفي بالدين لهذا الشاعر المهم ” رحمه الله “.
ولدالشاعر عريان السيد خلف في قضاء قلعة سكر على ضفاف الغراف في محافظة ذي قار سنة 1945. وأكمل المرحلة الابتدائية هناك قبل ان تهاجر العائلة الى الديوانية، ومن ثم الى بغداد إثر وفاة والدته ،وكذلك بحثا عن مصدر للرزق أكثر وفرة. جاء من جنوب القلب وجنونه، ادركته موالات الأهوار وثلج الناصرية ونارها. موشوم بالوطن، وسنابل الاغنيات الفراتية الملغزة. وظمأ العطاشى في بلاد المياه الازلية، والنار الازلية. وتلك الهوسات التي جعلت ماسورات البنادق ذات رائحة مثل رائحة الشمس والطين الحري وأناشيد سومر. كان يعمل في النهار لكي يخفف من اعباء المعيشة عن والده ويدرس مساء في المرحلة المتوسطة. بدأ بالكتابة في سن ال15 متأثرا بالجو الأدبي الذي كان منزل الأسرة عابقا به. انتمى الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي في مطلع الستينيات حيث شهدت هذه الفترة أحداثا مهمة منها محاولة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم وأحداث الموصل . الانتماء للحزب الشيوعي كان بمثابة الشرارة التي اججت ابداعه وحفزت روحه الوثابة الى الثورة والمحبة للفقراء والمطالبة بحقهم في العيش الكريم،حتى ان قصائده تحكي مشاركته في بعض خلايا ثورة موعودة لتحرير الوطن من وطأة الرجعية المتمثلة بالحرس القومي. هلي ..وشرعني هواكم باب للخطوة الغريبة
وخايرتني عيونكم: ذل لو جتل؟
وانه والموت التحمنه بمايكم ساك وحجل
رفاقه الواثبون عرفوا كلماته باكراً، وتحلقوا حول اساها المر، لانها مسقية من الماء نفسه، ولائبة في الظمأ نفسه! مذ عزعلى (الشاب) الطيب، الذاكي، كي يقاتل برائحة سنابله في زمن الجدب، وعلى الحسين ان ينتصر بقطرة ماء في (طف) البلاء، وكربه الاعزل.الصورة في شعره صنو الحسچة الفراتية، تضمر وتشير، لذا لا تندثر قصائده بالمناسبة كأنها وثيقة، بل يمتص رحيقها، او ينقر تينتها، مثل بلبله المشهور، ليغطيها بالطين بعد ان يملأها بالماء، فتتخمر، فيعود ليثب سطح الطين ويحتسي نبيذه المصنوع من كده، فيسكر حتى الثمالة! شعره مثل جنة بلاده ونارها، لما يزل في كفتي ميزان الابداع، لا الالم يرجح كفته، ولا الفرح، لا الورد يذبل في التل، ولا الگمر غاب عن الديرة. شعره(شايل) خوف الوطن وجسارة الارض والماء، كما (خوف الحديثات) الصبايا اليانعات (المايعات) حباً، والماسورات، المفاخرات بطعم البارود. لا وطن بلا نشيد او نشيجّ:-
خاف تموت
يا مايع ترافه
أتهيب امن احويك
خاف أصعب عليك
وخاف
بيدي تموت
اول اصداراته الكمر والديرة ( 1970- 1971 ).. كما قرأ من گبل ليلة مجموعته الثانية ( 73- 1974 ) و(اوراق ومواسم) مجموعته الثالثة ( 75- 1976 ) وايضاً من شفاعات الوجد الديوان المشترك مع مظفر النواب الذي صدر عن دار المسار بعمان 1995 وديوانه الصادردار الكتاب العربي بلندن1996.
عمل في معمل المشروبات الغازية في بغداد منذ 1966 وفي خلال العامين تمت ترقيته ليصبح “معاون ملاحظ” وليشارك بعد ذلك بصورة فعالة في المطالبة بحقوق العمال وخلال هذه الفترة اعتقل مرة اخرى،لكن هذه المرة اطلق سراحه بعد ان صدر قرار خاص. كانت قصيدة “ردي ردي” (1967) المحطة التي انطلق ابداعه منها، انتشرت هذه القصيدة بسرعه في اوساط المثقفين والطلبة حتى ان الناس كانت تحفظها عن ظهر قلب. دخل الإذاعة عام 1967 حيث قدمه الشاعر المرحوم سالم خالص (أبو ضاري) في برنامج “مواهب شابة” حيث لاقت قراءاته الشعرية الاستحسان من قبل الجمهور والمتا بعين توجت فترة الستينات بقصيدة “نذر” ذات المضمون السياسي الواضح والتي لاقت من الانتشار ما فاق سابقتها “ردي ردي” الغزلية. وكان الشعر هذه المرة صرخة حقيقية لاستنهاض الهمم في النفوس حتى ان الجمهور كان يطالبه بقراءتها اينما حل. كتب قصائد مهمة في بداية السبعينات جمعت فيما بعد لتطبع في مجموعته الشعرية الأولى “الكمر والديرة”عام 1974 لتنفد النسخ بسرعة تم على إثرها اصدار طبعة ثانية باعداد كبيرة.كما غنى قصائده كبار المطربين منها”روحي بيده” لفاضل عواد و “عيني عيني” و “تلولحي” لسعدون جابر و”سلمت وانت ما رديت السلام” و”بالكيف” لقحطان العطار و “سورة ماي” لرياض أحمد و “بلايه وداع” لصباح السهل.ظهرت مجموعته الثانية “كبل ليلة” للعلن سنة 1976 لتعبر عن مرحلة أكثر نضجا من ناحية البناء الشعري والرمزية الماثلة في بعض القصائد. عمل في الصحافة العراقية وفي التلفزيون وفي الإذاعة وحصل على جوائز وشهادات منها وسام اليرموك من جامعة اليرموك من الأردن. وحصل على شهادة دبلوم صحافة، وهو عضو نقابة الصحفيين العراقيين واتحاد الصحفيين العرب ومنظمة الصحافة العالمية عضو في الحزب الشيوعي العراقي. استطاع ان يتواصل مع حركة الأدب الشعبي عن طريق طبع الدواوين أو إعادة نسخ ما طبع نشر عدة قصائد ذات مغزى سياسي رافض منها قصيدة القيامة التي وصف فيها مدينة كربلاء إبان أحداث الانتفاضة الشعبانية عام 1991 في وسط وجنوب العراق وقصيدة شريف الدم التي أهداها للإمام الحسين. كما ونشر قصائد سياسية في السبعينات كشفت عن هويته الفكرية مثل قصيدة نذر وقصيدة الشاهد.في شعره المسرات تنبع من الاوجاع والاحزان لكنها تتولد الحاضر كي ينهض بالغد، الحر، السعيد، وبالوطن الاجمل والارحب لابنائه الخلص. نعم.. في شعره عذوبة الفرات وعطشه حين يحبس مجراه عن ناسه ورواته، فيتحول الشهيد العطش. الظمآن الى راو، يعطي من دمه النازف وبوحه المسلح، ما تعجز عنه الاسطورة لانه مائدتها وصلبها المقاوم. ينصت الى نبض نفسه، وصوت صمته، ومرات لهزيمة دمه او دمعه، او خلجات حبه، كذلك يفعل الشهيد، الشاهد في شعر الموت الموقوت والمؤجل، وفي الوفاء والكبرياء والدوران في المنافي المسيجة بالامل والمخدوعة به في آن. العراق،عنده ليس (عراقاً) عائماً في الاحتمالات او غائماً في المحن، بل النافر، الناظر الى بعيد، مثل بروميثيوس المقيد، الحر. لا يقف شعره عند العراق المنذور للمكاره والنوازل، بل يتجاوز ذلك الى العراق الذي يرتقي بقامته، مثل النخل، حتى لو قطعت مثل (خالد) (ابومحيسن) النخوة والاهوار، والكفاح العادل لا مسرات صغيرة، ولا احزان متواضعة في شعره رؤوسها، ومثل الحسين، يبقى في ذاكرة الحزن لكنه يغير، ويتغير، في الابطال الذين نذروا حياتهم للوطن:–
عاتبني ابعتابك خل ترد روحي
اوهسني.. ابدلالك.. ياشتل شمام
حتى ازهك.. وشوفك وينها اجروحي
بيه اشبع غرورك.. يا أعز جتال
في حوار معه يقول عن الشعر:الشعرعموما لا يتجزأ بين شعر شعبي أو فصيح، الشعر هو شعوروهو تعبيرعن واقع معين بمدى إحساس كاتبه الذي يكتب الشعر وتختلف الأداة ولكن الشعر واحد، وهناك قول لنجيب سرور: الشعر مش بس الشعر إن كان مقفى وفصيح، الشعر لو هزقلبي قالوا لك شعرك صحيح.. أكتب بالفصحى وأكتب بالشعبي، المسألة سيان عندي لا يختلف هذا عن ذاك ولكني أشعر أن المفردة الشعبية هي أداتي لأن انحداري انحدار قروي ريفي جنوبي، فأشعرأن المفردة الشعبية تتشظى لعدة دلالات وعدة معانِ لذلك أمارس الكتابة بالشعبي.
اما عن واقع الشعر الشعبي في الوقت الحاضر بعد غياب رموز الشعر الشعبي أمثال “زامل سعيد فتاح” و”كاظم إسماعيل الكاطع” يشير الى ان رموز الشعر الشعبي كثيرة ليس زامل أو كاظم كثيرون منهم “كاظم الرويعي” و“عزيز السماوي” و”شاكر السماوي” و”علي شيباني”، وكثير من الشعراء المبدعين الذين تميزت كتاباتهم وأصبحت لهم مساحة كبيرة في ذائقة الفرد العراقي،و أعتقد واحد من هؤلاء لا اشترط أن تكون لي مساحة مميزة ،لكني استطعت أن أصل إلى الناس وهذه نعمة كبيرة بصدقي معهم، بأن تكون صادقاً مع نفسك تكن صادقاً مع الناس، يجب أن لا تكذب ولا تفتعل الأشياء حتى لا تجعل حجاباً بينك وبين الآخرين، كن عفوياً، كن طبيعياً، تكن قريبا من قلوب الآخرين.. أية حركة إبداعية في كل الأزمان والعصور تتعرض إلى الكثير من الغث والتدمير والانهيارات، ولكن هي كالموجة كما يقال أو يقول المثل، حينما تنحسر الموجة على الشاطئ تترك ما علق بها وتعود صافية إلى البحر، أنا أتوقع بعد هذا الكم الهائل من الشعراء الذين يحاولون أن يُفسدوا الذائقة الشعبية العراقية بدليل أني أسمع وأنا أسير في هذا الغرق ببغداد بسيارتي واسمع أحدهم يقول لي ألا تكتب لنا قصيدة عن هذا الفيضان؟ سأكتب عن وعيك أولا، ثم سأكتب عن هذا الوضع، أو أنا اشتري شيئا مثلا أو أتسوق فيأتيك شخص فيقول لك اكتبلي قصيدة عن الرّقي وبضحكة سمجة لا تمت للذوق بشيء، فهكذا مفاهيم أو هكذا نماذج شعرية أوصلت الذائقة العراقية إلى أن تطلب من المبدع أو الشاعر أن يكون (عرض حالجي) وآخر يقول لي اكتبلي عن أمي أو أختي أو عن حبيبتي أو صديقتي.. جاءني أحدهم وقال لي ألا تكتب لي عن صديقتي قصيدة؟ قلت له: طيب عرّفني بصديقتك ودعني أعيش معها فترة وسأكتب لك ما تريد، كيف أكتب عن شيء لم أعايشه ولم أحسه ولم أعرفه؟.. من يطلب ذلك هو قد يفتقد إلى الكتابة أو الموهبة ولكن وعيه وعي محدود، وهذا ليس ذنبه ذنب المجتمع بشكل عام، ولا المجتمع إنه ذنب الأنظمة التي حاولت تبسيط أو منع الإنسان العراقي من أن يتقدم أو من أن ينتبه إلى القراءة إلى الثقافة إلى الوعي، كيف ينتبه وهو أمام هذه الطواحين؟ من الخدمات أو القتل من الدماء ينشغل بمن؟وعن سقوط مرحلة النظام السابق قال:-انا في العراق،عشت فيه وسافرت خارجه وعدت اليه.وهكذا لم اتغير،انا ابن هذه الارض ولن يقتلعني احد منها الا ان يقتلع الارض برمتها. وعن الحسجة ودورها في ازدهار الشعر لديه يستطرد: “الحسجة: هي المفردة المرمزة أو التي تتشظى لعدة احتمالات ومفاهيم، أنا ابن مدينة ريفية، ترعرعت بين الريف والمدينة، فكنا نتداول أحاديثنا ولهجتنا التي تحتوي الكثير من كلمات الحسجة. فما الضير من أن آتي بكلمات طفولتي وصباي وبيئتي إلى قصائدي وكتاباتي. وتوجد مفردات وكلمات نتداولها من أصول سومرية مثلاً (ديّه) تستعمل بالجنوب كثيراً و (دادا) الأخت (البلم، المردي) وغيرها الكثير ممن يعرفها أبناء الجنوب والناصرية تحديداً. ونرى هنالك من انقطع عن واقعه وتاريخه وامتداده وتناسى أنه من عائلة فلاحية ودخل التحضر والتمدن فنسى أصوله القديمة. الجرح والحزن والمعاناة هو من يخلق الشعر ويجعل الشاعر مبدعاً سواء كتبه بلهجة الحسجة أو بلهجة التحضر.