اخر الاخبارثقافة وفنونقسم السلايد شو
سردنة الأسئلة..أسئلة السرد في قصص نزار عبد الستار

بقلم -الناقد كمال عبد الرحمن \ العراق
السرد: هو الإخبار عن الحدث الموضوعي بالإشارة اليه،بأن تنبئ عن تقلباته الأساس، فيطرح أمامنا الفعل بوصفه شيئا ينجز على مرأى منا فيقول ” فيليب هامون” ((إن السرد يروي أحداثا وأفعالا في تعاقب “مظهر زمني”.)) ويعرفه” جان ريكاردو” بقوله(( من الواضح أن السرد هو طريقة القص الروائي، وإن القصة هي ما يروي، وهما يحددان وجهي اللغة، فالقصة هي مادة السرد الأساس عنده، والسرد هو لصياغة الشكلية اللغوية التي تعرض لهذه المادة من المؤلف)) والسرد من حيث هو مضمون أو محتوى حكاية ما، وهو يدل على سلسلة الأحداث الحقيقية أو التخييلية التي تشكل موضوع الخطاب بمختلف علاقاته.
في قصة (بيجامة حمراء بدانتيلا بيضاء) يقدم نزار عبد الستار نصًا غرائبيًا يلتحم مع الواقع عبر موجة أسئلة لا مجدية، فالشخصية (البطل) مثل كائن أسطوري (بل قل كائن موجي أثيري) يأتي من اللامكان ويذهب إلى حيث لا يدري، فتتفاقم الأسئلة (كيف؟ لماذا؟ متى؟) ومن خلال هذه الأسئلة تقوده الدهشة الى أن يتقمص دور ( العنقاء) التي كلما تموت أو تحترق تنبعث من رمادها من جديد.
هذه الشخصية التي ابتكرها إبداع الرائي الراوي نزار عبد الستار، هي مخلوق مزدوج (بين الهلام والواقع)،رجل لايموت، تعويذته (بيجامة ليلى الحبيبة المعجزة) يمتطي رؤوس الهلاك التي تمشي على أصابع الديناميت(T.N.T)، تتفجر الأرض به، ينفض عنه غبار الموت، ينهض وكأن شيئا لم يحدث، ثم يذهب الى بيته سالما:
((احتاج ” أسّو” الى أن ينجو سبع مرات من موت مؤكد كي ينتبه الى أعجوبة أن تنفجر السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة، بالقرب منه، ويستثنى وحده من الهلاك، بقي مدة شهر ينتظر، بكآبة مفرطة، أن يصحح ملاك الموت ساعته، إلا أن صديق طفولته المعذبة القس زكّو حبش أخبره، أن الملائكة دقيقون في مسألة الوقت ولا يمزحون أبدا))
إنها شخصية تدور داخل علم النفس، لا يفقهها أحد، لأنها أعمق من الأشياء وأكثر غموضًا مما ينبغي، ثم تخرج من علم النفس إلى الأدب العجائبي الذي يبدو وكأنه جنس جامع لبقية الأجناس، أكانت سردية أم شعرية، يتغذى منها أو تتغذى منه، يمتزج بها حتى تغيب بينهما الحدود أحيانًا، وأحيانًا مع نقاط الاختلاف والمفارقة، حيث نجد بنياته حاضرة لاتساع قاعدته، ويتماس العجائبي ويتوسل حقولًا أخرى قريبة ((من مجاله متخطيًا بذلك حدوده لارتياد آفاق جديدة ومتصلة تشكل خريطة ومهادًا يغترف منه، وعلى الرغم من كون المجالات الأخرى ذات حدود مرسومة، فإن مكوناتها لا تنفك تلتقي مع مكونات الفانتاستيك من بعيد أو قريب)) ، والعجيب «هو ذلك النوع من الأدب يقدم لنا كائنات وظواهر فوق طبيعية تتدخل في السير العادي للحياة اليومية، فتغير مجراه تمامًا، وهو يشتمل على حياة الأبطال الخرافيين الذين يشكلون مادة للطقوس والإيمان الديني مثل أبطال الأساطير التي تتحدث عن ولادة المدن والشعوب» فبطل هذه القصة يتحول من نكرة إلى ظاهرة، بل معجزة، خرجت من بين نياط حب مضغوط حتى العظم، حب ربما يكون بدون طرف،ف (أسّو بنوني) لاأحد، وربما يكون ( سيد النكرات)، ولكن مايميزه أنه له قلب بحجم العالم:
ف(( يبدو رثاً أكثر منه محسنا، وشديد التقيد بالذل ، حتى أنه من كثرة عقابه لنفسه ، كان الجميع يظنونه خادما في مقر بطريكية بابل الكلدانية)) لايوجد شخص اسمه( أسّو بنّوني)، يوجد قلب يملأ العالم اسمه ( أسّو بنّوني)، وكرد فعل لهذا الحب الكوني العجيب، تقع المعجزات، فتكفي قطعة قماش من فستان (ليلى)، لتكون أيقونة حياته ومنقذه ومخلّصه الأثير،يلقي نفسه بأحضان الموت، فيلفظه الموت خجلا من حبه العظيم، وهكذا تتفاقم معجزات العاشق الخالد، بين ( الموت) و(اللاموت):
((ان أكثر من مئة ألف شخص سحبوا طلباتهم بشأن الحصول على قطع من رداء أبيض يعود للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني، يعتقد إنها ربما تساعد على شفاء المرضى، وأن طلبات الإلغاء مستمرة في الوصول الى البريد الالكتروني دون توقف، والسبب قيام شخص عراقي يدعى أسّو بنوني بطرح ألف قطعة من بيجامة حمراء عبر الأنترنت تعود لامرأة تدعى ليلي، وان ثمانين شخصا من الذين تسلموا قطعا من البيجامة بحجم4ملم مربع للواحدة ، أكدوا في شهادات مدعومة بالأدلة قدمت الى مكتب الطقوس أنهم نجوا من الموت في انفجارات وقعت في جميع محافظات العراق)).
إن واحدة من أصعب مهام السارد، هي اشتغاله على العجائبي أو الفنطازي ويعد مصطلح الفنتازية مصطلحا واسع المدلول( الخيال/ التخييل / الوهم/ حلم اليقظة/ العصاب الذهني / الخرافة/ الاساطير/ الأحلام.. الخ) هذه جزء من عائلة الفنتازية ” اي كل ماهو غير واقعي وغير منطقي ” وذكر دانتي في كتابة ” الوليمة”((الفنتازية تشبيه لحلم العقل)) ،
*الفنتازيا هي ((وهم، خيال،لحن متحرر من القيود التقليدية،نزوة، والصفة منها،خيالي ، وهمي ، غير واقعي، غريب، غريب الاطوار)).
* والفنتازية هي ((جنس أدبي خطابي، يتولد من حالة التردد الذي يعتلي الشخصية الدرامية، عند مفاجاءتها بحدث خارق، مما ينتج موقفين مختلفين:إما غرائبي اذ يمكن تفسير الخوارق باعتبارها وهما خياليا، أو
عجائبي اذ لايمكن تفسير الخوارق بالعقل))
*ونزار عبد الستار لديه ملكة خاصة على تصنيع شخصيات غير اعتيادية من خارج الطبيعة، وله ولع في هذا جعله في مصاف المبدعين في أدب السرد العجائبي، فهو يُحكم تصنيع الفضاءات التخييلية، كما يبدع في صناعة النصوص العينية، فهو يتخيل وكأنه يرى، وهذه حاسة وحسنة تحسب له وتضاف الى ابداعه السردي الرائي.
نزار عبد الستار لم يستطع اختراق الحقيقة المؤلمة والدموية من أبوابها الواقعية، فاخترقها من خلال (الفنتازية)، وعرّى الخطابات السياسية الخاطئة ، عبر التصدي للموت حبا أو عن طريق الحب، وما (أسو بنوني) إلا إشارة رفض وتعرية للحروب والدمار، وما (فستان ليلي) إلا قناع تتخندق خلفه كل فراشات الطمأنينة وأناشيد السلام، رسالة واضحة من السارد الى العالم: أوقفوا عربة الدمار.. فالحب يترجل.
ان صناعة الشخصية في كتابات نزار عبد الستار، هي محاولة غير تقليدية لإنتاج كائنات تضرب عميقا في جذر أسئلة الإنسانية الكبرى، رسالتها ( الأرض والانسان) بصفتيهما توأمين لاينفصلان، وضرورة قصوى من ضرورات الحياة، ينشغل نزار في تصنيع الشخصيات، ثم يبتكر لها واقعة عينية أو نفسية أو تخييلية، ثم يراهن على قدرتها في تطويع الحاضر تحت وابل من الأسئلة التي ينزفها النص، وفي النهاية تكون سردياته عبر شخوصه نماذج رائية لزمن مرئي.
في قصة ( أبونا) يمتشق نزار جدلية(الإيجاب والسلب)، فشخصية (الأم) هي كل شيء، وشخصية (الأب) هي اللاشيء بعينه، الأم تبني والأب
يهدم، ومن خلال تضخيم دور الأم المتسلطة القوية، يبني نزار عبد الستار عائلة عجيبة، لايتحرك أحد فيه بشيء إلا والأم تمسك عقدة الحل بيدها، تطبق أصابعها، فيتراجع كل شيء لدى افراد العائلة، وتبسط الأصابع، فتنطلق أفراس الحريات في تصرفات الأبناء، ولكنها حريات محدودة،ف (المفتاح) الذي تحمله الأم يشكل جزءا من جسدها، هو باب( سمسم) أو باب (علي بابا) باب الآمال العريضة:
(( أقفلت أمنا الباب لأننا لانعرف كيف نعود إذا خرجنا، أدارت المفتاح في القفل الأسود، وأخرجته بالخفة نفسها، التي تعيد بها للمطبخ بهاء ما قبل الأكل، وبالتدبير الذي يليق بأم بيت مثلها، فعلت هذا بنية لم نكتشف قسوتها إلا بعد أن نسينا وزنه، والمكان الذي يوضع فيه، احتفظت به الى زمن أجبرنا على أن نألفه كما ألفناها، وأن نبر بتبعيته لها كعضو تأنث بالتوصيل، أو كشيء كنا نلاعبه في مرحلة القماط، نعضه، ونحك به لثتنا في موسم الأسنان، علمنا حرصنا أن ننظر اليه، وهو في يدها، كأصبع سادس نبت لها لكي تمسكنا بقوة حتى لانضيع منها، كإخوتنا الذين ذهبوا، وكأبينا الذين الذي لم يعد))
هذه الفاتحة النصية التي تتكرر كثيرا في القصة، تؤدلج تأريخ عائلة قائمة على نسق اخلاقي خاص، فالأبناء لاوجود لهم الا بوجود الأم بعد أن غاب الأب في دهاليز النسيان، تغالب الأم زمناً أشقى من الموت، وهي تحمل على كاهلها جبلاً من الأسئلة التي شاهت هويتها، الأم التي ضاع شريكها في مأساة لا يصدقها أحد، تتوحد مع صبرها، وتتحد مع عزيمتها، فثمة بيت بحاجة الى روح وحياة:
((قبل أن تحمل أمنا مفتاح باب بيتنا الى الأبد، كانت أمنا تحب النهار والليل، وبابنا يطرق يوميا، وكنا نشعر بها ترتج بلحمها الفائض مع صوت الباب، وترتبك خصوبة ألوان ثيابها، ولكنها سرعان ما تهدأ، وينطفئ فيها اللون الأحمر والأبيض ليعود طيفها الشمسي الجميل الى صفرته الساخنة،
قبل أن تحبل أمنا بقلقها وتتوقف عن تربيتنا بسيرة أبينا))
من هنا تبدأ شخصية( الأم) بالتمظهر تدريجيا من دون ان يلتفت اليها أحد، وتتأصل المبادئ فيها ، في زمن تغيرت فيه الحياة نحو الأسوأ والأصعب، فهي تشقى بين نارين ، نار الزوج الذي انفلت من دائرة التعقل وتاه في مدارات الفسق والمجون والجنون ، ونار ما تبقى من العائلة التي تاهت عندما ضاع الأب ، من هنا نذرت الأم نفسها كي لا يضيع ما تبقى ، فأعلنت سياستها الحازمة تجاه الأبناء، يشاركها في تطبيق هذه السياسة الحاوية المتشددة (مفتاح)، ومن خلال قناع أو رمز (المفتاح)، تتجلى البطريركية المعاكسة ، في اشتغال ( الأنا العليا)، ليس بصفتها ( الأنا الآخر)، بل بوصفها الحارس الأمين على مملكة العائلة، وبخاصة بعد ضياع الأب وهو يطارد آثامه على امتداد جنونه الأثير، صارت الأم بوابة الترصد والخوف من الخوف ونافذة القلق الغامض، أغلقت على أبنائها بمساعدة (المفتاح: الرمز) سبل التهالك التي قد تودي بحياة عائلة كاملة، اذا خرجت ولم تعد لا تعرف كيف تعود.
وفي قصة (رائحة السينما ) ثمة ممكنات عسرة يصعب تحقيقها،شخصية تمارس الحلم في تفاصيل حياتها اليومية، وكأنها تقتات نوعا من القات المخدر أو المهدئ، فالحلم يبدو أبعد مما يطاق، وسرعان ما يرضى ببعض التنازلات من فنان عالمي الى ممثل درجة عاشرة، وحينما لايحصل على شيء من كل هذا، يقتنع بممارسة حلمه الصغير وهي مشاهدة الفنان المسرحي” شفاء العمري” والتحدث معه بأمور الفن والفنانين، وحتى هذا لايتحقق إلا بشق الأنفس:
((منذ أن أضاع حظه فرصة السفر مع كنعان وصفي الى القاهرة، وهو يحسد حسن فاشل، ويغار من صبحي صبري، ولا يتكلم مع غازي فيصل، يقض أوقات انتظاره الصعبة في العلبة الخشبية التي حصنته من مخاوف الليلة الأولى في القبر، يحك الرف كرشه، وتخطط مسامير الباب ظهره، وهو يزخ عرقه الدائمي تحت واطات الكلوب، وأصابعه تقص البطائق للداخلين الى سينما أطلس.)) من هنا تبدأ رحلة حلم مؤود، فهو لايتراجع عن أوهامه، وتحت شعار مقولة كارل يونغ(( إن ما نعجز عن إدراكه بعقولنا الواعية غالبا ما تدركه عقولنا الباطنة التي يمكن أن تمرر معلوماتها تلك عبر الأحلام)) ، فإنه يتسلح بسلاح لايعرف الهزيمة ــ الأحلام ــ ويمضي قدما في تحقيق عشقه للسينما وحبه للتمثيل ولابأس لوكان ذلك على بعض مسارح الموصل، وان كانت عينه على السينما العالمية لاتغفل ولاتغفو ولاتنام.
من الطبيعي أن يتعلق( مشغل السينما) بالفن والأفلام والأبطال والنجوم اللامعين ذوي الشهرة الواسعة، وأن يقلدهم ويتمنى أن يكون واحدا منهم، وان كان كل هذا ليس إلا أضغاث أحلام، لكنه لايتوقف عن ممارسة الحلم، ويحاول أن يعرض بعض أدواره التمثيلية على عدد من الفنانين، وحينما يقف أمام المخرج شفاء العمري، ويحس أنها فرصة العمر، يصغي اليه العمري بأعصاب مستفزة، ومع هذا فيستمثر بكل قوته هذه اللقاء التاريخي مع العمري، محاولا كسب ثناء المخرج والفوز بدور تمثيلي في السينما أو المسرح:
(( وقف شفاء ليشاهده وهو يمسك غصن صنوبر مسكة الجندي لسيفه، جاعلا من قبر رئيس البلدية زوج أمه الراكع للصلاة، أخذ يطلق كلماته الشكسبيرية، مشنجا عضلات وجهه وبطنه،قائلا: إنها ليست الفرصة المناسبة للإنتقام، وانه لن يرسل القاتل الى السماء وهو بلا ذنوب، صفق له شفاء العمري بإعجاب وقال بما تبقى لأعصابه من هدوء إن شكله يذكره بمرحلة تاريخية مظلمة، وانه بهذه الهيئة يشبه جنكيز خان تماما)) من هنا كان عليه أن يدرك أن مملكة حلمه بدأت تتداعي تدريجيا، فشفاء العمري كان يصرفه أو يبعده عنه بكلمة طيبة، دون أن يزلزل أركان مملكة أوهامه، ولكنه لم يكن يعي الأمور بهذا التصور، كان (دون كيشوت) من طراز أخر،فارس يشق غباره كل يوم، ولايدري أو يحس بذلك، فشخصيته أشبه بطيف يدور حول نفسه، ولايجد لها مستقرا، إلا في تمثيل شخصية الطاغية الأعظم ” جنكيز خان”، وربما في يوم من الأيام قد يتساءل أحدهم ( من هذا الممثل القدير الذي مثل دور الطاغية؟)، ومؤكد ذلك لن يحصل، مادامت حياته كلها تتنقل من الوهم الى الأحلام.