ورقة أدبيّة
بقلم : أ . النّاصر السعيدي
*نصّ القصيد :
” ترتاح يداي بالقرب منّي
على مقعد بلا ظلّ
عيناي تتابعان العالم تحاولان هضمه
المشاهد كانت عصيّة على التقيّؤ
اصابتني قرحة مزمنة في روحي بينما تيبّس صوتي
حين يستعصي على جسدي الحبّ
يتيبّس صوتي
يمرّ القطار بعد قليل
لا قلب ينبض في لساني حتّى اصرخ في سائق القطار : انتظرني
ولا أقدام تقتفي مسارب الضّوء
مرّ القطار
العالم يواصل لعبته
ويداي ترتاحان بالقرب منّي
على مقعد بلا ظلّ “
ليس غريبا أن تكتب حياة بن تمنصورت الشّعر في أسمى معانيه وأرقى مستوياته ،وتدعّم هذا العطاء الأدبي بإصدار مجموعتها الشّعريّة الأولى : ” قصيدتان و أغنية ” ، وهي أستاذة اللّغة والآداب العربيّة ، لندرك وقتها أنّنا في حضرة شاعرة أكاديميّة بامتياز ، كاملة الأوصاف وتامّة الشّروط في خانة الفعل الأدبي ، إضافة إلى ذلك فشاعرتنا هي ابنة جربة جزيرة الأحلام وأرض الخرافات والحكايات والأساطير والألغاز بين المكان والزّمان ، وهي البحر بأسراره وامتداده والطّبيعة الغنّاء بجمالها وطقوسها وقداستها ، ممّا خلق لدى أهلها ميزة الحديث وفصاحة اللّسان والخيال والتّصوير والتّعبير فتوارثوا الشّعر وأبدعوا في كتابته قولا ونظما ورسما وتزويقا ونسجا وصار من ثوابت ومقوّمات موروثهم الشّعبي ، صورة طبق الأصل لهذا القصيد الذي تمتّعنا بقراءته رغم أنّه أربكنا وهزّنا بعنف وأقضّ مضجعنا لأنّه جاء ثريّا بالغموض والتّرميزوالإيحاء ، وأتقنتْ فيه شاعرتنا لعبة المكان والزّمان وهي ثنائيّة الإبهار والإبداع لدى الشّعراء رغم أنّ المكان ثابت بينما الزّمان متحرّك ،وحتما وظّفت شاعرتنا هذه المعادلة عن وعيٍ ، ممّا جعل المتلقّي يلتصق بالقصيد ويلتحم بمضمونه رغبة منه في فهمه من خلال قراءة نقديّة أدبيّة خاصّة أنّه جاء دون عنوان ، ممّا جعل القارىء يتحرّر من قبضة ورقابة العنوان فدخل مباشرة إلى أروقة النصّ الشعريّ ليتفسّح فيها كما يشاء ، وللأمانة قرأتُ هذا القصيد للشّاعرة حياة بن منتصورت عدّة مرّات ،فلم اقدر على ضبط وتحديد عناصر السّرد فيه ولم أميّز خاصّة بين المقدّمة وسياق التحوّل والخاتمة لأنّ الأحداث أخذتْ مسارات متشابكة ومنعرجات ملتوية ارتسمتْ مثل المشاهد السّنمائيّة خاصة تلك السّيناريوهات التي تبدأ بالخاتمة وتنتهي بالمقدّمة كإبداع فنّي وخيالي رغبة في الإبهار وشدّ المتفرّجين ، ممّا جعلني من جهة التفاعل الإيجابي أعيد كتابة هذا النصّ الشعري باختصار في تشكّل مغاير أروم فيه ترتيب الأحداث ترتيبا سليما حسب تصوّري دون التعسّف على النصّ الشعري الأصلي :
” يمرّ القطار بعد قليل
لا قلب ينبض في لساني حتّى أصرخ
في سائق القطار، انتظرني
ولا أقدام تقتفي مسارب الضّوء
مرّ القطار
ترتاح يداي بالقرب منّي
على مقعد بلا ظلِّ
العالم يواصل لعبته
عيناي تتابعان العالم تحاولان هضمه
المشاهد كانت عصيّة على التّقيّؤ
ويداي ترتاحان بالقرب منّي .
على مقعد بلا ظلِّ ” وعند قراءتي للقصيد لاح لي المكان ضيّقا :(مقعد) ثم تراه يكبر ويمتدّ ليتّسع ويحتضن بقيّة الأحداث :(مقعد ، القطار ، العالم) ، وهذا الإطار المكاني ارتبط عضويّا بالإطار الزّماني كأنْ نتخيّله يبدأ مع طلوع الصّباح وإشراقة الشّمس:(مقعد بلا ظلّ ، مسارب الضّوء) ، والشّاعرة وجَدَها القارىءُ في مواجهة مباشرة ومكشوفة مع العالم :(العالم يواصل لعبته ، عيناي تتابعان العالم تحاولان هضمه ) ، وقد يكون هذا العالم هو القدر أو الزّمان أو الأحلام أو الأمنيات حسب تصوّرنا ، وجعلته الشّاعرة طرفا مقابلا تخاطبه ولا تكشف عنه وكأنّها لا تريد أن تعرّي هذا الغموض الذي سما بقصيدها ليكون ناضجا وراقيا باعتباره ظاهرة ميّزتْ التجربة الشعريّة العربيّة المعاصرة إذ هي من إفرازات الحداثة ، كما تلعب حياة بن تمنصورت دور الشّاعر السّارد فهي تسيطر على القصيدة منذ البداية من جهة نزعة الشّعر الذّاتيّة بهدف الاستفراد والتفرّد والاستعلاء مستعملة ضمنيّا الضّمير:” أنا ” :(يداي، منّي ،عيناي، أصابتني، روحي، صوتي، جسدي، لساني ،أصرخ ) ، فلا يشاركها أحد غيرها الأفعال :(ولا أقدام تقتفي مسارب الضّوء) ، وإنّ القصيد جاء مثقّلا بالصّور الشعريّة وقد خضّبها التّرميز على شاكلة شعر الحداثة :(ترتاح قدماي بالقرب منّي ، عيناي تتابعان العالم ،المشاهد كانت عصيّة عن التّقـيّـؤِ، أصابتني قُرحة مزمنة في روحي ، تيبّس صوتي ، حين يستعصي على جسدي الحبّ ، لا قلب ينبض في لساني ، ولا أقدام تقتفي مسارب الضّوء ، العالم يواصل لعبته) ، وقد اعتمد هذا النصّ الشعريّ على التّفعيلة الحرّة أي أنّه لم يخضع بالكامل إلى بحر خليليّ تقليديّ دون أن يهمل احتواءه على محسنات بديعيّة ضروريّة على غرار السّجع الذي أفرز تقطيعا صوتيّا من حيث الإصغاء إلى فراغات من خلال حركة ” الكسرة ” في أواخر عديد المفردات ممّا خلق جرسا موسيقيّا جميلا :(منِّي، ظلِّ، التّقيّؤِ، صوتيِ، انتظرنِي، الضّوءِ، منِّي، ظلِّ ) تدعّم بتواجد التّكرار كظاهرة لغويّة هامة يتّسم بها النصّ الشعريّ قصد إثرائه وإخصابه مع إيقاع موسيقيّ كبُعْدٍ جماليّ يوضّحُ المعاني ويُوصلها إلى المتلقّي :(يداي / يداي ، بالقرب منّي / بالقرب منّي ، على مقعد بلا ظلّ / على مقعد بلا ظلّ ، تيبّس صوتي / يتيبّس صوتي ، يمرّ القطار / مرّ القطار) ، كما استعملتْ شاعرتنا النّفي ضمنيّا أو بِـ ” لام النّفي ” ، وهو أسلوب لغويّ يُراد به إنكار الخبرأي أنّه ضدّ الإثبات ، ويعكس حالة القلق الوجوديّ لدى الشّاعرة وهي تعبّر حتما عن ثورة وتمرّد قصد خلق عالم أفضل لديها :(المشاهد كانت عصيّة على التّقيّؤ ، حين يستعصي على جسدي الحبّ ، لا قلب ينبض في لساني ، لا أقدام تقتفي مسارب الضّوء ) ، وقد احتوى القصيد على جمل اسميّة وأخرى فعليّة حتّى يؤدّيا الاستمرار والتّجدّد والدّوام في القصيد ، مع وفرة الأفعال حتّى يولد القصيد نابضا ومتحرّكا ومشاكسا ،وأكثرها جاء في المضارع أي في المستقبل ويفيد الاستمرار والدّيمومة :(ترتاح ، تتابعان ، تحاولان ، يستعصي ، يتيبّس ، يمر،ّ ينبض ، أصرخ ، تقتفي ، يواصل ، ترتاحان) ، دون أن نغفل عمّا عمدتْ إليه الشّاعرة ـ وكأنّها في لعبة الحظّ ـ بين المقدّمة : أين استعملتْ فيها جملة فعليّة ، والخاتمة : أين استعملتْ فيها جملة اسميّة ، ولعلّها تشبّثتْ بالمعنى فوظّفتْ التّكرارغاية التأكيد وكأنّي بالجملتين تتوالدان من بعضهما، وإنّ القارىء قبل أن يفارق النصّ حسبي أن يرتسم له القصيد لوحة تشكيليّة معبّرة بشتّى الألوان ، يسيطر عليها ضياء الشّمس ، حيث سيّدة تستلقي على كرسيّ داخل عربة القطار، وهو يستعدّ لمغادرة المحطّة التي خلتْ من النّاس ، وقد تلهّتْ بمتابعة ما يمرّ أمامها من مشاهد في عالم تواجهه في ألم ومعاناة وحيرة وقد تيبّس صوتها لمّا استعصى الحبّ على جسدها ، ويستوحي القارىء من نفسيّتها التي تسقطها على نصّها بأنّ العمر مرّ كما مرّ القطار ، نعم مرّ قطار العمر لشاعرة واجهتْ العالم وعبّرتْ عن معركة وجوديّة في لحظات ولكنّها قد تطول :” العالم يواصل لعبته ” ، طالما ” الأدب مأساة أو لا يكون ” حتّى بدتْ لنا شاعرتنا حياة بن منتصورت ” على قلق كأنّ الرّيح تحتي ” من أجل (حبّ) ينبض به (قلبها) ليغذّي (روحها ) التي أصابتها قرحة مزمنة فتيبّس صوتها ولم يبق حولها إلاّ صوت قصيدها يتردّد صداه من هناك ، من الأفق البعيد وهو يحتضن جزيرة الأحلام ويوشّحها بحمرة الشّفق وقد تناثرتْ على رمالها مراكب الصيّادين كخالات من العنبر سحرا وعطرا .